إنَّ الاحتياج للحُبّ والقبول حقّ لكلّ إنسان - يجب أن يُسدَّد - يولد بولادتنا وينتهي بموتنا، رغم أنَّ هناك حقيقة واقعة، علينا معرفتها وإدراكها
، وهي أنَّ الله وحده القادر على أن يقدِّم لنا حُبّاً غير مشروط، وحُبّه وقبوله لنا من شأنه إشباع وتسديد احتياجاتنا.
فلماذا يسعى الإنسان جاهداً وبشتّى الطُّرُق لتسديد احتياجه العميق للحُبّ والقبول غير المشروط، إن كانت علاقاته سليمة؟
بحر من المفردات والجُمَل التّعبيريّة القويّة تحمل معنىً ومغزىً واحداً في طيّاتها، هو أنَّ ما يحيط بالإنسان من علاقات ما هي إلاّ علاقات مريضة وغير صحيّة.
إنِّ من يعاني من خَلَل في علاقاته ومن نَقص في تسديد احتياجه للحُبّ غير المشروط عبر مراحل نموّه، يصاب بخَلَل نفسيّ، فيسعى لإيجاد طُرُقٍ لتسديد هذا الاحتياج، طُرُق تُخلِّف وراءها علاقات مريضة غير صحيحة.
فعلى سبيل المثال، الطّفل المولود حديثاً يبدأ بتلقّي الحليب - اللبن - ليُغذّي جسده، والحُبّ والاهتمام والقبول ليُغذّي روحه ونَفْسه. ثمّ ما أن يكبر جسده وينضج، حتّى يسعى بنَفْسه إلى إيجاد غذائه من الحُبّ والقبول عبر طُرُق مشروعة للحُبّ ،كأن يلتصق بوالدته أو والده أو يلتصق بذاته رافضاً والدَيه. إلا أنَّه إن حدث خَلَل ما في شكل أو طريقة إيصال هذا الحُبّ، فإنّنا نرى هذا الطّفل وقد نما وكَبُر جسديّاً، لكنَّه أُعيق عن النّموّ السّليم نفسيّاً ووجدانيّاً. وقد يتّخذ أساليب عديدة للحصول على الحُبّ والقبول داخل أُسرته، مثل لَعِب دور البطل أو الضّحيّة الضّائع حقّها أو دور المهرِّج الذي دائماً ما يحاول جذب انتباه الآخَرين. وعندما يكبر ويراهق، يصبح رُجَلاً أو امرأةً، يبدأ بعَيش أنواع متعدّدة من العلاقات المريضة بحثاً عن طريقة لإسكات جوعه وشَغَفه للحُبّ والقبول، فيُمارس العادة السّريّة، أو الجِنس المِثلي، يدمن الجِنس والعلاقات غير المشروعة، إلى جانب ما يتخيّل إلينا من سلوكيّات قهريّة أُخرى كالإدمان والتّدخين والإباحيّة.
هذه السّلوكيّات والممارسات تجلب عليه وباءً شديد الخطورة، يقضي على العلاقات السّويّة في المجتمع ويدمّرها، وباء يُسمّى "الاعتماديّة"، وهو أخطر الأوبئة النّفسيّة على الإطلاق.
الاعتماديّة:
تُعرَّف بأنَّها محاولات للسّيطرة على المشاعر الدّاخليّة بممارسة مجموعة من العلاقات والسّلوكيّات الخارجيّة، سَعياً لتحقيق الاستقرار وذلك بالسّيطرة على المشاعر الدّاخليّة والحصول على خبرة عاطفيّة - مشاعر - تُهدّئ الشّعور العميق بالجوع للحُبّ.
كلّ تلك المحاولات هي عكس القانون النّفسي والرّوحي الذي يقول بأنَّ الاستقرار ينبع من الدّاخل وليس العكس، لذلك عادةً ما تفشل هذه المحاولات في تحقيق الاستقرار المنشود.
لكن ولأنّ الإنسان الاعتمادي لا يعرف منذ وُلِدَ سوى هذه الأنواع من الطُّرُق لتحقيق الاستقرار، لا يعود أمامه إلاّ الإفراط فيها لعلّها تنجح.
هدف العلاقات الاعتماديّة:
للعلاقات الاعتماديّة هدف واحد، هو الشّعور بالشّبع والتّحكُّم في الحالة النّفسيّة الدّاخليّة، هذا الهدف - عادة ً- لا يكون واضحاً أمام الشّخص الاعتمادي، فهو يعتقد بأنَّه يختار شريكه الذي يريد أن يُكمل معه مشوار الحياة بكلّ اقتناع، ظناً منه بأنّ هذا هو الإنسان الوحيد المناسب له في الدّنيا وأنَّ هذه العلاقة مبنيّة على حُبّ حقيقي وصداقة حقيقيّة وخدمة حقيقيّة، غير عالم بأنَّ ما يفعله هو نوع من الاعتماديّة. إذن الاعتماديّة هي سلوك غير واعي.
الاستنارة:
قد يحصل الاعتمادي بعد فترة على استنارة وإدراك وتبصُّر، بوجود شيء ما غير سليم في حياته وعلاقاته، وذلك عندما تتكرّر علاقاته الفاشلة التي كان يظنّ في كلّ واحدة منها بأنَّها العلاقة المثاليّة.
الشّخصيّات الاعتماديّة:
نراها في الشّخص الضّعيف المُحتاج والمُعتمِد على الآخَرين، وفي شخص يتسوّل الحُبّ من غيره ويسعى إلى إرضائه بكلّ الطُّرُق. شخص يحتاج إلى شريك أقوى منه كي يحميه ويرعاه وينصحه دائماً، يتّخذ له قراراته ويفعل له كلّ شيء، يرشده في كلّ شيء وكأنَّه طفل صغير.
الاعتماديّة العكسيّة:
هي وجه آخَر لذات العُملة الاعتماديّة التّقليديّة، فيها لا يسعى الشّخص الاعتمادي إلى تسوّل الحُبّ من الآخَرين، لكنَّه يعمل على جعل الآخَرين يتسوَلون الحُبّ منه، من خلال التّظاهُر بالقوّة والاستقرار وعدم الاحتياج، كي يجتذب غيره من ذوي الشّخصيّة الاعتماديّة الكلاسيكيّة.
سيطرة الاعتماديّين
يحقّق الاعتماديّون سيطرتهم بطُرُق واضحة وصريحة ومباشرة، إمّا من خلال ممارسة القوّة أو بطُرُق خبيثة وغير مباشرة عبر المناورة بالضّعف. قد يمارسون كذلك السّيطرة على ذواتهم أيضاً وبشكل مبالَغ فيه من خلال إقناع أنفسهم بعدم احتياجهم للآخَرين، رغم شعورهم العميق بالاحتياج الشّديد للعلاقة.
نماذج عن الاعتماديّة:
تتلخّص مشكلة الاعتماديّين في التّعامُل مع النّاس، ويحاولون حلّ هذه المشكلة عبر نمطَين من التّعامُل، إمّا بالاقتراب المبالَغ فيه أو الابتعاد المبالَغ فيه، ويظهر هذان النّمطان في معظم العلاقات التي نشاهدها في الحياة:
1- في هَجر الحبيب لحبيبته ودخوله بعد يومَين في علاقة جديدة مع حبيبة أُخرى.
2- في صورة الفتاة التي تختار التّنازل لحبيبها رغم معاملته القاسية لها وازدرائه بها لمرّات كثيرة، كي تتسوّل المزيد من الحُبّ منه بين الحين والآخَر.
3- في العلاقات العامّة بين الأصدقاء التي تنتهي عادة بوجوب وجود شخصيّتين، إحداهما تلعب دور الضّحيّة المتروكة الضّعيفة الخانعة، والأُخرى تأخذ زمام السّيطرة والقوّة والسّيادة.
4- في العلاقات الزّوجية، فنرى علاقات تسودها السّيطرة بلا حدود ويتحكم فيها صِغَر النّفْس. فهناك زوجات عديدات تَخترنَّ الاختباء تحت مظلّة الرَّجُل المُسيطِر والمُهيمِن بعد أن كنَّ في مركز القيادة والسّلطة سابقاً.
5- أو في احتمال بعض النّساء الذُّلّ والتّهميش والإساءة اللفظية والجسديّة، سعياً وراء كلمة حُبّ أو تحقيقاً للحُبّ المُضحّي والمُحتوي للآخَرين.
الحلّ:
يأتي التّعافي والصّحّة النّفسيّة في إشباع جوعنا للحُبّ عبر العلاقة الحميمة مع الله أولاً، فهو خالقنا وعارف نفوسنا، والنّفْس تتوق إلى جابِلِها.
كذلك في علاقات صحيّة يحكمها الوعي والتّعافي والنّضوج ثانياً.
الأمر ليس سهلاً في البداية، لكن إدراك المرض والشّعور بالاحتياج إلى الشّفاء منه يساهمان في انطلاقة الحلّ أيضاً.
معرفة الذّات جيّداً، وتطوير الذّهن من خلال القراءة عن الموضوع يُدخلنا إلى إدراك جديد ومُستجدّ لِمَ يحدث لنا.
الجلوس في مجموعات للفَضفضة والمشاركة "مجموعات الدّعم والمساندة".
أخذ مواقف جادّة للحيلولة دون السّماح للآخَرين بالتّعدَي على حياتنا من خلال الاعتماديّة.
كلّ ما سبق يساهم في استمراريّة خطوات الشّفاء. لكن أهمّ تلك الخطوات كما أسلفنا: "الإيمان بالله والثّقة به والاعتماد الكامل عليه عبر بناء علاقة حميمة معه".
إذا كان لديك عزيزي القارىء أيّة مشكلة تحبّ أن تشاركنا بها، وتحبّ أن نصلّي لأجلك .. اتّصل بنا