خرج عادل من بيته وهو يندب حظه الذى أوقعه فى هذه البيئة الفقيرة ، فهو ذاهب الآن الى الكلية لابسا أشياء قديمة وأثمالا بالية ، بها عيوب كثيرة ، فهذا البلوفر يده قصيرة ، لكن عادل تغلب على هذه المشكلة ولبس قميصا تحت البلوفر ، درجة لونه أخف من درجة لون البلوفر بعض الشىء ، وبهذا لا يلفت هذا العيب الأنظار الا قليلا .
أيضا جوربه كان استكه أو الحبل المطاطى الذى فى حلقه يكاد لا يؤدى دوره على الاطلاق ، حزامه صاحبه منذ ثلاث سنوات ولا يمتلك غيره ، أما حذائه فقد أهداه اليه أخوه الأكبر عندما بلى وضاق عليه .
كان عادل ممسكا بيديه كتابه غالى الثمن والذى كان ضروريا جدا ولا مفر من اشترائه ، وكان معه أجندة قديمة أقدم من تاريخ هذا اليوم بحوالى عشر سنوات ، لأنه كان قد اشتراها من مشتر كتب قديمة وخردوات . فكر عادل كثيرا فى حالته هذه ، وهو لا يعرف : أيحسد الأغنياء أم يشتمهم ؛ لأنه عندما يقترب منهم - مجرد لحظة - يحس مباشرة بالفرق المادى بينهم وبينه ، وكان هذا الاحساس يسبب له ضيقا كبيرا ، وأى ضيق كبير .
بعدما وصل عادل الى مدرج الكلية ، كان قد وصل الدكتور المحاضر ، وسرعان ما بدأ المحاضر الشرح ، لكن عادل لم يكن يتابع شرحه على الاطلاق ، كان مازال يتفكر فى ضيق ذات يده ، وحاجته الشديدة للملابس الجديدة فى العيد القادم الذى قارب على المجىء ، بل وأيضا كان يريد أن يهدى والدته شيئا - ولو بسيطا - فى هذا العيد ، لكن ما باليد حيلة ، تذكر هنا المثل المصرى المشهور : العين بصيرة والايد قصيرة .
كان المحاضر يشرح ، وكان عادل يسرح ، كثيرا وكثيرا فأكثر ، وفجأة لاحظ المحاضر ما يفعله عادل ، فقال له : أنت ، قف . نظر عادل للخلف وبالجانب ، عل المحاضر طلب غيره ، فتساءل عادل : أنا يا دكتور ؟ أجاب المحاضر محدثا عادل : نعم أنت . وقف عادل فقال المحاضر : ما بالك لست منتبها لما أقوله ؟ وقف عادل كالصخرة أو الجلمود الذى لا يفتح فاه أبدا ، ولم ينبس ببنت شفة ، لم يكن يدرى ماذا يقول فى هذا الموقف على الاطلاق . وفجأة تصبب العرق منه بغزارة .
قال المحاضر لعادل غاضبا : ما أسمك ؟ أخبره عادل اسمه الثلاثى ومازال جبينه يتصبب عرقا ، وهنا - فجأة وبلا مقدمات - قال المحاضر موجها حديثه لعادل بنظرة ولهجة لا تخلو كل منهما من الاحترام والتقدير : أأنت عادل فعلا ؟ رد عادل مندهشا بما آل اليه الحديث وبتغير لهجة ونظرة المحاضر اليه : بالطبع يا دكتور ، أنا عادل .
رد المحاضر بصوت لا يخلو من الاعجاب : لقد قررت الكلية تكريمك فى يوبيلها الذهبى بمناسبة تفوقك الكبير ، بل وستمنحك أيضا لقب الطالب المثالى . هنا ولأول مرة فى يومه هذا ، بل ومنذ زمن طويل ، لأول مرة يضحك عادل ويبتسم ، ولم يجد أفضل من كلمتى الحمد لله كى يقول ، اندهش عادل كثيرا وفرح أكثر بكثير خاصة بعدما هنأه زملاؤه رغم وجود المحاضر.
هنا قال المحاضر : اجلس يا عادل يا ابنى ولا تشرد بأفكارك مرة ثانية .
جلس عادل ، وهو يحمد ربه على فقره الذى جعله يجتهد ، هذا الفقر الذى لم يكن له عائقا فى أى يوم من الأيام.
مــلـحـوظـة: جملة الفقر أحيانا يكون شرط الاجتهاد ، جاءت قبل أن تجىء فى مدونتى البسيطة هذه ، جاءت فى كتاب الأيام لعميد الأدب العربى طه حسين ، ربما لم تكن الجملة منقولة بنفس الحروف ، لكنها تحمل نفس المبدأ الذى اعتنقه الدكتور طه حسين عندما كان يدرس فى الأزهر .